رندا حتاملة تكتب
تطلّ الصحفية الأردنية نوف الور لتكتب من حيث لا يُكتب عادة؛ من قلب التجربة، من وجع الجسد والروح معًا، من صراع النساء مع مرضٍ لا يهدّد الحياة فحسب، بل يختبر معناها ويعيد تشكيلها.
في كتابها «عابرات الحياة» تجمع الور أربع عشرة حكاية لنساء عبَرن محنة سرطان الثدي، وتحوّلن من مريضات إلى رواةٍ للضوء. ورغم واقعية العنوان، لا يقف الكتاب عند حدود التوثيق الصحفي، بل يشقّ لنفسه طريقًا في حقل الأدب الإنساني المقاوم، حيث تمتزج الواقعية الصحفية ببلاغة الوجدان، فيتحوّل النص إلى أدبٍ يُقرأ بالقلب قبل العين.
منذ الصفحة الأولى، يهمس الكتاب للقارئ بأن النجاة لا تعني الشفاء، وأن الجسد ليس سوى مرآةٍ للروح حين تتعلّم كيف تحيا رغم الجراح.
الور لا تكتب بلسان الصحفية التي تراقب من الخارج، بل بلسان الكاتبة الشاهدة التي تقترب حدّ التماس مع الألم الإنساني؛ كأنها تمسك بأيدي بطلاتها وتقودهن من الظلمة إلى الضوء، من الخوف إلى المعنى.
وتذكّرنا هذه النزعة بكتابات المصري إدوار الخراط حين قال إن «الأدب لا يصف، بل يفتّح الوعي»، وبأسلوب اللبنانية هدى بركات في تعرية الهشاشة البشرية من دون شفقة.
ورغم أن الكتاب يقوم على قصص واقعية، فإن الور تتعامل مع مادتها بمنطق السرد الأدبي لا بمنطق التقرير الصحفي.
كل قصة تُبنى كعالم مستقلّ له شخصياته وذروته ولغته الخاصة، وغالبًا ما تبدأ من لحظة الصدمة تشخيص المرض ثم تنفتح على رحلة الوعي بالذات، قبل أن تنتهي بانبلاج الأمل أو لحظة الإدراك.
هذا البناء الثلاثي يذكّر بالبنية الكلاسيكية للرواية التحوّلية (Bildungsroman)، حيث يمرّ البطل بتحوّلات روحية تشبه الولادة الثانية. وكأن الور تقول: «كل نجاةٍ روايةٌ في ذاتها.»
لغة الور تتراوح بين التقريرية والتأملية، لكنها لا تقع في فخ الوعظ أو العاطفة الجارفة. ففي مقاطع كثيرة يلمح القارئ اقتصادًا أسلوبيًا يترك فراغاتٍ يتسلّل منها شعوره الخاص، وهو أسلوب قريب مما فعلته الأمريكية مايا أنجلو في I Know Why the Caged Bird Sings، حيث تُروى المأساة بلغة متماسكة لا تستجدي التعاطف بل تحفّز الوعي.
كما تتقن الور استخدام الجملة القصيرة المكثّفة التي تمنح النص نَفَسًا صحفيًا دون أن تُفقده بريق الأدب. فاللغة هنا ليست أداة وصف، بل أداة شفاء؛ كل كلمة كأنها ضمادٌ على جرحٍ مفتوح.
وتقدّم الور في عابرات الحياة صورة المرأة لا بوصفها ضحية المرض، بل رمزًا للإنسان القادر على التحول.
المرأة هنا ليست «مريضة» بل «عابرة»: عابرة الخوف، وعابرة النسيان، وعابرة من جسدها إلى روحها، ومن التجربة الفردية إلى الوعي الجمعي. وبذلك تنخرط الور في تيار الأدب النسوي الإنساني الذي لا يرفع شعار الصراع بين الجنسين، بل يسعى لإعادة الاعتبار لكرامة الإنسان في أنوثته وضعفه. وتقترب في هذا المنحى من تجربة المغربية فاطمة المرنيسي في كتبها السيرية، ومن رؤية سيمون دو بوفوار التي رأت أنّ المرأة تُصبح ذاتها حين تختار أن تروي.
بين «عابرات الحياة» و«نساء صغيرات» و«The Choice»
في السياق المقارن، يمكن وضع الكتاب ضمن سلسلة من الأعمال التي تتناول تجربة النساء مع الألم والتحول.
فهو يشبه رواية «نساء صغيرات» للوَيـزا ماي ألكوت في تمجيده للقوة الداخلية للمرأة وسط المعاناة، لكنه أكثر واقعية وأقرب إلى السيرة التوثيقية.
كما يذكّر بكتاب The Choice لإديث إيغر، الناجية من الهولوكوست، التي رأت في الألم بوابةً للحرية وليس نهايةً للأمل.
في كل تلك الأعمال، كما في كتاب الور، تتحوّل التجربة القاسية إلى محرّك معرفي وروحي، ويصبح السرد شكلًا من أشكال العلاج النفسي الجماعي.
ويستبطن الكتاب رؤية فلسفية عميقة للحياة والموت.
كل قصة تنتهي برسالة ضمنية: الإنسان لا يملك مصيره، لكنه يملك طريقة مواجهته.
تتجلّى هذه النزعة الوجودية في عبارات مثل: «نحن لا نختار أقدارنا، لكننا نملك القدرة على تحويلها إلى قصص تُروى.»
وهي رؤية تقارب أفكار كامو في «أسطورة سيزيف» وفكتور فرانكل في «الإنسان يبحث عن المعنى»، لكن الور تتجاوز العبثية الغربية لتمنح الألم معنى إنسانيًا وإيمانيًا مشرقًا يعيد الإنسان إلى ذاته وإلى الله في آنٍ واحد.
الأدب الصحفي العلاجي:
عابرات الحياة ليس مجرد تجميع لشهادات نسائية، بل تجربة تأسيسية في الأدب الصحفي العربي، تربط بين الكتابة العلاجية والصحافة الإنسانية.
إنه يفتح أفقًا جديدًا للصحفي العربي ليدرك أن الخبر الإنساني لا يُنشر في الصحف فقط، بل يمكن أن يُخلّد في الأدب.
كما يعيد تموضع المرأة العربية في الأدب الحديث لا كرمز غامض أو صوت احتجاجي، بل كوعي يتكوّن من التجربة لا من النظرية.
في هذا الكتاب لا تنتهي الحكايات عند حدود المرض، بل تبدأ منه.
كل امرأة تخرج من صفحاته ليست نسخةً عن الأخرى، بل لوحة بألوانٍ مختلفة من الصبر والوعي.
إنه كتاب لا يُقرأ دفعة واحدة، بل يُرتشف على مهل، ككوبٍ من الضوء؛ لأن كل سطر فيه يعيد تعريف معنى أن تكون حيًّا رغم الألم.
تحليل مقتطفات من الكتاب:
– «حين تتوقف أنفاس الحياة للحظة، يظهر في القلب صوتٌ خافت يقول: هذه ليست النهاية، إنها بداية جديدة.»
في هذه الجملة الافتتاحية ترسم الور مفترقًا بين الموت والحياة، بين التوقف والنبض.
الطباق بين النهاية والبداية يخلق توترًا دلاليًا وإيقاعيًا، والجملة تبني تصاعدًا نفسيًا: توقف الأنفاس ? صوت خافت ? تحوّل المعنى.
إنها جملة تُشبه طلقة وعيٍ في لحظة سكون، تختزل فكرة الكتاب كله: الحياة ليست نقيض الموت، بل إعادة صياغة له.
– «نحن لا نختار أقدارنا، لكننا نملك القدرة على تحويلها إلى قصص تُروى.»
هنا تبلغ الور ذروة الوعي الإنساني والكتابي، معلنة فلسفة السرد بوصفه فعلًا وجوديًا مقاومًا للفناء.
الجملة مبنية على مقابلة بين القدر (المفروض) والقصة (المختار)، وهي رؤية نفسية تشبه ما يسميه فرانكل «المعنى في المعاناة».
– «العلاج لم يكن جسديًا فقط بل نفسيًا أيضًا.»
هذه العبارة المكثّفة تختزل نظرة الور للشفاء بوصفه توازنًا بين الجسد والروح.
الفصل بين «جسديًا» و«نفسيًا» ليس نحويًا، بل دلاليًّا، يرسم المسافة بين المرئي والمخفي.
هنا تلتقي الور مع أدب الاعتراف الحديث مثل سيلفيا بلاث في The Bell Jar والطاهر بن جلون في «تلك العتمة الباهرة».
خاتمة: تثبت نوف الور أن الأدب العظيم لا يُكتب بالحبر فقط، بل بالنجاة. وأن الصحافة حين تمتلك الروح تتحول إلى شعر، وحين تمتلك التعاطف تصبح علاجًا، وحين تروي عن امرأة تنجو، فإنها تروي عن الإنسان كله.












