رندا حتاملة
في واحد من أكثر الخطابات إنسانية وتأثيراً خلال السنوات الأخيرة، وقف جلالة الملك عبدالله الثاني أمام البرلمان الأوروبي في مدينة ستراسبورغ الفرنسية، لا كزعيم إقليمي فحسب، بل كصوتٍ أخلاقي يوقظ الضمير العالمي من سباته. وفي لحظة بدت وكأنها محملة بمرارة السنين ووجع القلوب المنكوبة، تساءل جلالته بصوت عالٍ: «كيف يعقل لإنسانيتنا أن تسمح بأن يصبح ما لا يمكن تصوره أمراً اعتيادياً؟».
عبارة مرعبة، لكنها واقعية، قالها الملك بنبرة لم يعتدها المتابعون، نبرة حملت في طيّاتها غصّة وغضباً وإيماءة موجعة لكل من بقي له قلب ينبض في هذا العالم.
على مدى أكثر من ربع قرن، مثل جلالة الملك صورة القائد الحكيم، الذي يوازن بين الدبلوماسية والمواقف الصلبة، ليأتي خطاب جلالته أمس لا مجرد عرض سياسي للمواقف، بل نداء القائد الإنسان، الذي خاطب أوروبا، ومن خلالها تلك القوى الغربية التي ترفع شعارات العدالة والحرية، داعياً إياها إلى أن تنظر إلى ما يحدث في منطقتنا، حيث أصبح الموت مشهداً يومياً، والدماء أمراً روتينياً، والظلم واقعاً ماثلاً في وضح النهار.
وحين ينطق قائد مثل الملك عبدالله الثاني بهذه اللهجة، فإن الرسالة أبعد من مجرد تحذير. إنها تعبير عن حالة من اليأس الإنساني المتصاعد، وعن إدراك عميق بأن الإقليم لم يعد يحتمل مزيداً من التجاهل الدولي. القضية لم تعد فقط صراعاً على أرض أو سيادة، بل تحولت إلى امتحان أخلاقي عالمي فشلت فيه الإنسانية حتى اللحظة.
خطاب الملك أمام البرلمان الأوروبي حمل في جوهره دعوة صريحة لإعادة تعريف مفاهيم «المصلحة» و»التحالف» و»الصمت»، إنه يطالب أوروبا والعالم بأن يتوقفوا عن التطبيع مع المجازر والخراب، وأن يعيدوا النظر في طريقة تعاملهم مع قضايا الشرق الأوسط، لا من منطلق الأمن والسياسة فقط، بل من باب الكرامة والإنسانية.
وأن يُطلَق هذا النداء من داخل البرلمان الأوروبي، وفي قلب القارة التي تملك مفاتيح القرار والنفوذ، فلذلك دلالات عميقة. فهذا ليس خطابا لوسائل الإعلام، بل شهادة للتاريخ، بأن ملكاً عربياً لم يقف صامتاً أمام انهيار القيم، ولم يجامل حين صار الموت عادياً.
لقد كان المشهد في ستراسبورغ أكثر من مجرد خطاب، كان مرآة لعالم يوشك أن يفقد روحه. وربما، كانت كلمات جلالة الملك، بكل ما حملته من وجع وصدق، محاولة أخيرة لإحياء الضمير الإنساني قبل أن نصل إلى نقطة اللاعودة.
إنها ليست مجرد عبارة مرعبة، إنها الحقيقة المرة التي علينا جميعاً أن نواجهها.