الصحفي جمعة الشوابكة
في لحظات التاريخ الفاصلة، لا تُقاس قوة الدول بعدد جيوشها ولا بحجم ثرواتها، بل بمدى تماسكها الداخلي وصلابة عقدها الوطني. وفي الأردن، لم تكن الوحدة الوطنية لحظة طارئة ولا شعارًا مناسباتيًا، بل كانت وما تزال ركيزة وجود، وقاعدة استقرار، وسرّ صمود دولة وسط محيط مضطرب. هذه الوحدة لم تكن مصادفة. كانت خيارًا وطنيًا صريحًا، أسّست له القيادة الهاشمية، ورعاه الشعب، واختبرته المحن. وقد قالها جلالة المغفور له الملك الحسين بن طلال، طيب الله ثراه، بكلمات لم تكن مجرد موقف سياسي بل إعلان سيادي خالد: “كل من يحاول العبث بالوحدة الوطنية والإساءة إليها هو عدوي إلى يوم القيامة.” لم تكن هذه العبارة جملة عابرة، بل مرجعية ثابتة ترسم حدودًا واضحة بين النقد والعبث، بين الاختلاف والتفكيك، بين حرية التعبير وخيانة الانتماء. إن الوحدة الوطنية في الأردن ليست مجرد توافق اجتماعي، بل منظومة من الفهم العميق بأن بقاء الدولة مرتبط بإيمان المواطن بكرامته، وبشراكته الحقيقية في القرار والبناء. وهي ليست محصورة في الوثائق الدستورية، بل متجذرة في وجدان الأردنيين الذين تصدّوا للفتن، وبنوا مؤسسات الدولة، ووقفوا خلف القيادة حين كان الوطن بحاجة إلى من يرفعه لا من يزايد عليه. جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين، حفظه الله ورعاه، لم يجعل من الوحدة بندًا في خطاب، بل جعلها نواة لحكمه، وأساسًا لكل مشروع تحديث وإصلاح. في عهده، لم تعد الوحدة حالة طوارئ تُستدعى عند الشدائد، بل نهجًا دائمًا يضمن الأمن السياسي والاستقرار الاقتصادي والتوازن الاجتماعي. لقد فهم جلالته أن الوطن لا يُبنى إلا عندما يشعر كل فرد فيه أنه شريك حقيقي، لا مجرد رقم في تعداد سكاني. لذلك، جاءت السياسات التي تؤكد على العدالة، والمساواة، وكرامة المواطن، لا كمجرد شعارات، بل كضمانات لولاء صلب وانتماء لا تهزّه العواصف. وحين ننظر إلى تجارب العالم، نجد أن الدول التي حافظت على وحدتها الداخلية، مثل سنغافورة وكندا، استطاعت أن تحوّل تنوعها العرقي والديني إلى مصدر قوة. نجحت هذه الدول لأنها اختارت طريق التماسك لا الانقسام، والحوار لا الصدام، والعدالة لا الامتيازات المغلقة. بينما انهارت دول أخرى من الداخل لا بفعل الحروب، بل بسبب تجاهل الفجوات الاجتماعية، وتمييز فئة على حساب أخرى، واستغلال الانتماءات الضيقة لتمزيق الهوية الوطنية. ما يُهدد الوحدة ليس الاختلاف، بل أن يتحول هذا الاختلاف إلى صراع. وما يُضعف الانتماء ليس التعدد، بل الإقصاء. وما يُسقط الدول ليس الفقر، بل الظلم. ولهذا، فإن أخطر ما يمكن أن تواجهه الوحدة الوطنية اليوم، هو الخطاب المسموم الذي يُروّج للكراهية، أو يُشكك في صدق الانتماء، أو يُعيد إنتاج الفُرقة بمظهر حضاري زائف. حماية الوحدة الوطنية لا تأتي بالصدفة، بل تُبنى بتراكم المواقف، وبوضوح الرؤية، وبصدق الممارسة. ويقع جزء كبير من هذه المسؤولية على عاتق الإعلام، والنخب، والمؤسسات التربوية، التي يجب أن تغرس في كل فرد أن اختلافنا لا يُضعفنا، وأن تنوعنا لا يهددنا، وأننا أقوى عندما نكون مختلفين لكن متماسكين. الوحدة ليست أن نكون نسخة واحدة، بل أن نحترم نسخنا المختلفة ونؤمن بأن ما يجمعنا هو أكبر من تفاصيلنا. ليست أن نتشابه، بل أن نتعاون. وليست أن نذوب، بل أن نلتقي عند الهوية الوطنية التي تسعنا جميعًا دون استثناء. من يعبث بهذه الوحدة لا يُمارس رأيًا حرًا، بل يفتح ثغرة في جدار السيادة. ومن يهاجمها لا يختلف معنا سياسيًا، بل يهدد الكيان كله. ومن يُحاول إعادة إنتاج الانقسام، لا يُطالب بحق، بل يُقامر بالوطن. الأردن ليس دولة تبحث عن تعريف، بل كيان وُلد من الوحدة، ونهض بها، ولا يقبل إلا أن يستمر على أساسها. الوحدة الوطنية ليست بندًا إداريًا، ولا قانونًا يُطبَّق فقط، بل عقد شرف بين القيادة والشعب، يتجدد كل يوم، ويُمارَس في كل موقف، ويُترجم في كل سياسة. لهذا نقول: الوحدة الوطنية ليست خطًا أحمر فحسب، بل هي الدرع الفولاذي الذي لا يُخترق، والركيزة السيادية التي لا تُساوم، والهوية العميقة التي لا تقبل التصدّع. فليحترم الجميع هذا العقد… لأنه ببساطة، لا وطن لنا سواه.