عمران السكران يكتب
في كل صباح، ومع أول رشفة من القهوة في في أروقة غرف التحرير الصحفي، يتردّد سؤال يشبه صوت طابعة قديمة: هل جاء الذكاء الاصطناعي ليكون ذراعًا مساعدة؟ أم أنه يجهّز نفسه لكتابة استقالتنا الجماعية… بأسلوب أكثر احترافية؟
لا يمكن إنكار ما يقدّمه الذكاء الاصطناعي من خدمات جليلة للعديد من الإعلاميين، مثل تقارير الأسواق تُنجز قبل أن تفتح السوق أبوابها، نتائج المباريات .. تُنسَّق قبل صافرة النهاية، ونشرات الطقس التي تعرف مكان الغيمة قبل أن تراها السماء، أما التدقيق اللغوي، فهذا زميل مثالي: لا يمرض، لا يتذمّر، فقط يصحّح في صمت.
لكن التحدّي الحقيقي يبدأ عندما ننتقل من الأرقام والتحاليل وربط تلك الأرقام إلى الألغام: السياسة، والمشاعر، والمفردات التي تقول شيئًا وتقصد غيره، فهل يستطيع روبوت أن يفهم أن (إعادة الهيكلة) ليست مصطلحًا إداريًا بريئًا، بل فصلاً ناعمًا بخلفية حزينة عند الموظفين، أو أن يروي قصة احتجاج موظفين على مديرهم من دون أن يتعثّر بجملة “الله معك” لسنا بحاجة إليك.
الذكاء الاصطناعي يُتقن ترتيب الفقرات كمهندس دقيق، لكنه لا يفهم أن الحرية في بعض البلدان تمر عبر بوابة التفتيش، لا يسمع النبرة الساخرة، ولا يشمّ رائحة الخوف المنسكبة بهدوء بين الكلمات، ولا يعرف أن في بعض المقالات، الصمت هو بحدّ ذاته تصريح.
وفي غرف التحرير، حيث تُوزَن الكلمات بميزان الذهب، تصبح الآلة كمن يرتدي بدلة رسمية في ملعب ترابي: أنيق… لكنه تائه.. إن بالغت في الحذر، خرج الخبر كقائمة بقالة، وإن اقتربت من الخطوط الحمراء، انهارت المنصة قبل أن يصرخ أحدهم: أين زر الحذف؟!
وهنا نعود إلى السؤال: هل الذكاء الاصطناعي بديل؟ الواقع أنه موظف جديد، سريع وملتزم، لكنّه بلا خيال ولا حسّ، هو لا ينام، ولا يخطئ، ولا يتردد، ونحن نتردّد لأننا نعرف ما وراء الكلمة.
أيها الصحفيون، لا تتعاملوا مع الذكاء الاصطناعي كوحش يهدد مهنتكم، ولا كعبقري يملك عصًا سحرية، إنه مجرد زميل جديد: لا يشرب القهوة، لا يتأخر عن الدوام، لكنّه لا يعرف طَرقات القلب قبل نشر خبر، ولا يفهم ماذا يعني أن تكتب والرقابة تقرأ خلفك.
استفيدوا منه، لكن لا تعتمدوا عليه، دعوه يُنجز المسودات، وأنتم اكتبوا القصص التي لا تجرؤ الخوارزميات على لمسها، لأن الصحافة لا تصنعها السرعة ولا الإحصاءات، بل تصنعها عينٌ تلمح ما لا يُقال، وأذنٌ تسمع الهمس، وقلمٌ يكتب ليُفهم بين السطور…