عبدالله بني عيسى يكتب
إذا كان هذا الهجوم الكاسح على “تفاهة” السوشيال ميديا، التي لم تدخل حياتنا إلا منذ سنوات قليلة، هجوماً محقاً، فمن حقنا أن نسأل بالمقابل: ماذا أنجزت تيارات الثقافة والحكمة والرزانة والتفكير العميق على مدى قرون طويلة؟
فجأة، صار لزاماً أن نحمّل “يزن” و”أم نمر” (الذين تعرفت إليهم قبل أيام) وزر أزماتنا التاريخية ومشاكلنا المتراكمة منذ مئات السنين!
يحق لمجتمعات تملك سجلاً حضارياً ونهضة فكرية وتجربة متراكمة أن تتعامل مع “التفاهة” باعتبارها حالة شاذة أو عرضاً جانبياً للانفتاح أو حتى ضرورة من نوع ما، لكن المجتمعات التي تفتقر إلى هذه المقومات، من أين لها أن تصدر أحكاماً بهذه السهولة؟
التفاهة ليست في نكتة سطحية على “إنستغرام”، ولا في فيديو عابر أو برنامج خاوٍ أو استعراض أجساد وابتسامات بلهاء على فيس بوك كما نرى فعلاً، بل التفاهة الحقيقية أن تعجز أمة بكاملها عن صناعة نهضتها، وعن بناء اقتصادها وصناعتها وثقافتها. التفاهة أن تكون “ملطشة” لكل الأمم ولا تملك من أدوات الدفاع عن نفسك إلا قصيدة وبيان إدانة، أن يبلغ العالم أبعد نقطة في الكون بما راكم من علم ومعرفة وحرية وقيم إنسانية، فيما شعوب أخرى ما زالت تتعثر في ألف باء الحضارة. التفاهة أن نفشل أخلاقياً وقانونياً وإنسانياً في عبور دوار مزدحم أو في تنظيم طابور أمام حافلة.
التفاهة الحقيقية أن يختبر العالم أعلى مستويات الجدية والإنتاجية وأخلاقيات العمل واحترام الوقت وصون كرامة الآخرين، بينما ترزح شعوب أخرى تحت أزمات الكذب والغش والخداع، والجرأة على انتهاك الحقوق، والضحالة في الأخلاق والفجاجة في التعبير.
أنا شخصياً أكثر من تستفزهم التفاهة، لكني أمنحها حجمها الحقيقي ولا أحمّلها مسؤولية كوارثنا الكثيرة.